فصل: الْعِلَاوَةُ الْأُولَى: الْبَلَاغَةُ الْفَنِّيَّةُ فِي الْآيَةِ 44:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال صاحب المنار في الآيات السابقة:

{وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ}
هَذِهِ الْآيَاتُ الثَّلَاثُ فِي مَسْأَلَةٍ فَرْعِيَّةٍ مِنْ قِصَّةِ نُوحٍ لَا مِنْ صُلْبِ الْقِصَّةِ وَأُصُولِ وَقَائِعِهَا وَلَكِنَّهَا تَدْخُلُ فِي الْعَقَائِدِ وَأُصُولِ الدِّينِ مِنْ بَابَيْنِ اثْنَيْنِ لَا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ، أَحَدُهُمَا: بَابُ الْإِلَهِيَّاتِ بِمَا فِيهَا مِنْ حُكْمِ اللهِ وَعَدْلِهِ وَسُنَّتِهِ فِي خَلْقِهِ بِلَا مُحَابَاةٍ لِوَلِيٍّ وَلَا نَبِيٍّ، وَثَانِيهِمَا: اجْتِهَادُ الْأَنْبِيَاءِ وَجَوَازُ الْخَطَأِ فِيهِ وَعَدُّهُ ذَنْبًا عَلَيْهِمْ بِالْإِضَافَةِ إِلَى مَقَامِهِمْ وَمَعْرِفَتِهِمْ بِرَبِّهِمْ،- وَهِيَ مَا عَرَضَ لَهُ عليه السلام مِنَ الِاجْتِهَادِ فِي أَمْرِ ابْنِهِ الَّذِي تَخَلَّفَ عَنِ السَّفِينَةِ وَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ كَمَا مَرَّ فِي الْآيَةِ (43) وَكَانَ ظَاهِرُ التَّرْتِيبِ أَنْ تُجْعَلَ بَعْدَهَا فَتَكُونَ (44) وَوَجْهُ هَذَا التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ بَيْنَهُمَا الَّذِي اقْتَضَتْهُ الْبَلَاغَةُ الْعُلْيَا، وَالْحِكْمَةُ الْبَالِغَةُ الْمُثْلَى، هُوَ أَنْ قُدِّمَتِ الْآيَةُ الْمُتَمِّمَةُ لِأَصْلِ الْقِصَّةِ الْمُبَيِّنَةُ لِوَجْهِ الْعِبْرَةِ فِيهَا بِأَرْوَعِ التَّعْبِيرِ، الَّذِي يَقْرَعُ أَبْوَابَ الْقُلُوبِ بِأَبْلَغِ قَوَارِعِ التَّأْثِيرِ، فَكَانَ اتِّصَالُهَا بِهَا كَاتِّصَالِ الْمُوجَبِ بِالسَّالِبِ مِنَ الْكَهْرَبَائِيَّةِ الَّذِي يَتَوَلَّدُ، بِهِ الْبَرْقُ الَّذِي يَخْطِفُ الْأَبْصَارَ، وَالصَّاعِقَةُ الَّتِي تَمْحَقُ مَا تُصِيبُهُ مِنَ الْأَشْيَاءِ وَالْأَشْخَاصِ، فَالْآيَةُ الثَّالِثَةُ وَالْأَرْبَعُونَ تُصَوِّرُ لِقَارِئِهَا وَسَامِعِهَا نَكْبَةَ الطُّوفَانِ بِأَعْظَمِ الصُّوَرِ هَوْلًا وَرُعْبًا وَدَهْشًا تَطِيشُ لَهَا الْأَلْبَابُ، وَتَحَارُ فِي تَصَوُّرِ كَشْفِهَا وَمَا يَئُولُ إِلَيْهِ أَمْرُهَا الْأَخْيِلَةُ وَالْأَفْكَارُ، فَتَتْلُوهَا الْآيَةُ الرَّابِعَةُ وَالْأَرْبَعُونَ فَتَكُونُ الْفَاصِلَةَ بِكَشْفِ ذَلِكَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ بِكَلِمَتَيْنِ وَجِيزَتَيْنِ مِنْ كَلِمَاتِ التَّكْوِينِ الْإِلَهِيِّ، قُضِيَ بِهِمَا الْأَمْرُ بِنَجَاةِ الْمُؤْمِنِينَ الصَّالِحِينَ، وَهَلَاكِ الْمُشْرِكِينَ الظَّالِمِينَ، وَلَوْ فُصِلَ بَيْنَهُمَا بِهَذِهِ الْآيَاتِ الثَّلَاثِ (45: 47) اللَّوَاتِي وُضِعْنَ بَعْدَهُمَا، لَضَاعَ تِسْعَةُ أَعْشَارِ بَلَاغَتِهِمَا وَتَأْثِيرِهِمَا فِي الْعِبْرَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْمَقْصُودَةِ عَنِ الْقِصَّةِ كُلِّهَا، الَّتِي كَانَتْ كَاشْتِعَالِ الْكَهْرَبَاءِ مُظْهِرًا لِسُرْعَةِ مَشِيئَتِهِ تَعَالَى فِي كَشْفِ الْكَرْبِ، فَكَانَ مِنْهَا نُورٌ ظَهَرَتْ بِهِ رَحْمَتُهُ فِي إِنْجَاءِ السَّفِينَةِ وَأَهْلِهَا الْمُؤْمِنِينَ، وَصَاعِقَةٌ مَحَقَتْ جَمِيعَ الظَّالِمِينَ.
{وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ} فِي إِثْرِ نِدَائِهِ لِابْنِهِ الَّذِي تَخَلَّفَ عَنِ السَّفِينَةِ وَدَعَاهُ إِلَيْهَا فَلَمْ يَسْتَجِبْ {فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} هَذَا تَفْسِيرٌ لِـ {نَادَى} أَيْ فَكَانَ نِدَاؤُهُ أَنْ قَالَ: يَا رَبِّ إِنَّ ابْنِي هَذَا مِنْ أَهْلِي الَّذِينَ وَعَدَتْنِي بِنَجَاتِهِمْ إِذْ أَمَرْتَنِي بِحَمْلِهِمْ فِي السَّفِينَةِ {وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ} الَّذِي لَا خُلْفَ فِيهِ، وَهَذَا مِنْهُ {وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ} أَيْ: أَحَقُّ مِنْ كُلِّ مَنْ يُتَصَوَّرُ مِنْهُمُ الْحُكْمُ، وَأَحْسَنُهُمْ وَخَيْرُهُمْ حُكْمًا كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (5: 50) وَقَالَ: {وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} وَذَلِكَ أَنَّ حُكْمَهُ تَعَالَى لَا يَكُونُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَالْعَدْلِ، لِأَنَّهُ يَصْدُرُ عَنْ كَمَالِ الْعِلْمِ وَالْعَدْلِ وَالْحِكْمَةِ، فَلَا يَعْرِضُ لَهُ الْخَطَأُ وَلَا الْمُحَابَاةُ، وَلَا الْحَيْفُ وَالظُّلْمُ، وَحُكْمُهُ تَعَالَى يُطْلَقُ عَلَى مَا يُشَرِّعُهُ مِنَ الْأَحْكَامِ، وَعَلَى مَا يُنَفِّذُهُ فِي عِبَادِهِ مِنْ جَزَاءٍ عَلَى الْأَعْمَالِ، وَمُرَادُ نُوحٍ بِهَذَا أَنْ يُنْجِيَ ابْنَهُ الَّذِي تَخَلَّفَ عَنِ السَّفِينَةِ بَعْدَ أَنْ دَعَاهُ إِلَيْهَا فَامْتَنَعَ، مُعَلِّلًا نَفْسَهُ بِأَنْ يَأْوِيَ إِلَى جَبَلٍ يَعْتَصِمُ بِهِ مِنَ الْغَرَقِ، وَلَمْ يَقْتَنِعْ بِقَوْلِهِ لَهُ: لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ: 43 فَالْمَعْقُولُ أَنَّ الدُّعَاءَ وَقَعَ بَعْدَ هَذِهِ الْمُحَاوَرَةِ مَعَ ابْنِهِ وَقَبْلَ أَنْ يَحُولَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ.
{قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} الَّذِينَ أَمَرْتُكَ أَنْ تَسْلُكَهُمْ فِي السَّفِينَةِ لِإِنْجَائِهِمْ، وَفَسَّرَ هَذَا النَّفْيَ وَعَلَّلَهُ أَوْ وَجَّهَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} قَرَأَ الْجُمْهُورُ {عَمَلٌ} بِرَفْعِ اللَّامِ وَالتَّنْوِينِ عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِي التَّشْبِيهِ كَرَجُلٍ عَدْلٍ، كَأَنَّهُ لِفَسَادِهِ وَاجْتِنَابِهِ لِلصَّلَاحِ وَالْتِزَامِهِ الْعَمَلَ غَيْرَ الصَّالِحِ نَفْسُ الْعَمَلِ، كَمَا قَالَتِ الْخَنْسَاءُ فِي وَصْفِ النَّاقَةِ:
تَرْتَعُ مَا رَتَعَتْ حَتَّى إِذَا ادَّكَرَتْ ** فَإِنَّمَا هِيَ إِقْبَالٌ وَإِدْبَارٌ

وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ وَيَعْقُوبُ بِصِيغَةِ الْفِعْلِ الْمَاضِي بِتَقْدِيرِ: عَمِلَ عَمَلًا غَيْرَ صَالِحٍ، وَالْأَوَّلُ أَبْلَغُ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ كَانَ كَافِرًا يَعْمَلُ عَمَلَ الْكَافِرِينَ، وَالْكُفْرُ يَقْطَعُ الْوِلَايَةَ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ مِنَ الْأَقْرَبِينَ، وَيُوجِبُ بَرَاءَةَ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاءُ مِنْكُمْ} (60: 4) الآية، كَمَا أَنَّ الْإِيمَانَ يُوجِبُ الْوِلَايَةَ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ الْأَبْعَدِينَ- بَلْهَ الْأَقْرَبِينَ- كَمَا قَالَ عز وجل: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} (9: 71). وَقِيلَ إِنَّ مَعْنَى الْجُمْلَةِ: إِنَّ سُؤَالَكَ إِيَّايَ يَا نُوحُ عَنْهُ وَطَلَبَكَ لِنَجَاتِهِ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ لَا أَرْضَاهُ لَكَ. رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمَا أَرَاهُ يَصِحُّ عَنْهُ، وَقِيلَ: إِنَّهُ كَانَ وَلَدَ زِنًا، أَوْ كَانَ وَلَدَ غَيْرِهِ مِنَ امْرَأَتِهِ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْبُطْلَانِ؛ لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى سَمَّاهُ ابْنَهُ.
فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ وَقَعَ هَذَا مِنْ نُوحٍ عليه السلام وَقَدِ اسْتَثْنَى اللهُ تَعَالَى مِنْ أَهْلِهِ الَّذِينَ وَعَدَهُ بِنَجَاتِهِمْ فَقَالَ: {وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ} 23: 27 وَلَا يَعْزُبُ عَنْ عِلْمِهِ أَنَّ الَّذِينَ سَبَقَ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ هُمُ الْكَافِرُونَ الَّذِينَ قَضَى اللهُ بِهَلَاكِهِمْ بَعْدَ دُعَائِهِ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: {رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} (71: 26) وَكَانَتِ امْرَأَتُهُ وَابْنُهُ هَذَا مِنْهُمْ، وَلَا يُعْقَلُ أَنْ يَخْفَى عَلَيْهِ أَمْرُهُمَا؟ وَلَكِنَّ امْرَأَتَهُ لَمْ تُذْكَرْ فِي قِصَّتِهِ، وَإِنَّمَا ذُكِرَتْ فِي سُورَةِ التَّحْرِيمِ مَعَ امْرَأَةِ لُوطٍ فِي خِيَانَةِ زَوْجَيْهِمَا وَدُخُولِهِمَا النَّارَ، وَاسْتُثْنِيَتِ امْرَأَةُ لُوطٍ مِنَ النَّجَاةِ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ فِي قِصَّتِهِ؟
(قُلْنَا) يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ حِينَ رَأَى ابْنَهُ بِمَعْزِلٍ عَنِ الْكُفَّارِ، ظَنَّ أَنَّهُ قَدْ بَدَا لَهُ كُفْرُهُ فَكَرِهَهُ وَجَنَحَ لِلْإِيمَانِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَدْ فَهِمَ أَنَّهُ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى لَهُ: {إِنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ} 11: 36؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ النَّاجِينَ قِسْمَيْنِ: أَهْلَهُ إِلَّا مَنِ اسْتَثْنَى، وَمَنْ آمَنَ مِنْ قَوْمِهِ، فَجَازَ فِي فَهْمِهِ أَنْ يُؤْمِنَ مِنْ أَهْلِهِ مَنْ كَانَ كَافِرًا لِأَنَّهُمْ قَسِيمٌ لِقَوْمِهِ مِنْهُمْ، وَوَافَقَ هَذَا الْفَهْمَ وَقَوَّاهُ رَحْمَةُ الْأُبُوَّةِ فَسَأَلَ اللهَ تَعَالَى أَنْ يُحَقِّقَهُ، وَلَمَّا كَانَ هَذَا اجْتِهَادًا ظَنِّيًّا لَا يَلِيقُ بِنَبِيٍّ رَسُولٍ مِنْ أُولِي الْعَزْمِ أَنْ يُخَاطِبَ بِهِ رَبَّهُ عَاتَبَهُ تَعَالَى وَأَدَّبَهُ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: {فَلَا تَسْأَلْنِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} أَيْ: فَلَا تَسْأَلْنِي فِي شَيْءٍ مَا مِنَ الْأَشْيَاءِ لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ صَحِيحٌ أَنَّهُ حَقٌّ وَصَوَابٌ، وَسَمَّى دُعَاءَهُ سُؤَالًا؛ لِأَنَّهُ تَضَمَّنَ ذِكْرَ الْوَعْدِ بِنَجَاةِ أَهْلِهِ وَمَا رَتَّبَهُ عَلَيْهِ مِنْ طَلَبِ نَجَاةِ وَلَدِهِ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ {تَسْأَلَنَّ} بِفَتْحِ اللَّامِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ الْمَفْتُوحَةِ، وَابْنُ عَامِرٍ بِتَشْدِيدِهَا مَكْسُورَةً وَكَذَا نَافِعٌ مَعَ إِثْبَاتِ الْيَاءِ.
وَهَذَا النَّهْيُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الدُّعَاءِ أَنْ يَكُونَ بِمَا هُوَ جَائِزٌ فِي شَرْعِ اللهِ وَسُنَنِهِ فِي خَلْقِهِ، فَلَا يَجُوزُ سُؤَالُ مَا هُوَ مُحَرَّمٌ وَمَا هُوَ مُخَالِفٌ لِسُنَنِ اللهِ الْقَطْعِيَّةِ بِمَا يَقْتَضِي تَبْدِيلَهَا، وَلَا تَحْوِيلَهَا وَقَلْبَ نِظَامِ الْكَوْنِ لِأَجْلِ الدَّاعِي، وَلَكِنْ يَجُوزُ الدُّعَاءُ بِتَسْخِيرِ الْأَسْبَابِ، وَتَوْفِيقِ الْأَقْدَارِ لِلْأَقْدَارِ، وَالْهِدَايَةِ إِلَى الْعِلْمِ بِالْمَجْهُولِ مِنَ السُّنَنِ وَالنِّظَامِ، مَعَ مَا يُؤَدِّي إِلَى ذَلِكَ مِنَ الْأَعْمَالِ- كَمَا فَصَّلْنَاهُ مِنْ قَبْلُ.
{إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} أَيْ أَنْهَاكَ أَنْ تَكُونَ مِنْ زُمْرَةِ الْجَاهِلِينَ، الَّذِينَ يَسْأَلُونَ أَنْ يُبْطِلَ تَعَالَى تَشْرِيعَهُ أَوْ حِكْمَتَهُ وَتَقْدِيرَهُ فِي خَلْقِهِ إِجَابَةً لِشَهَوَاتِهِمْ وَأَهْوَائِهِمْ فِي أَنْفُسِهِمْ أَوْ أَهْلِيهِمْ وَمُحِبِّيهِمْ، وَأَجْهَلُ مِنْهُمْ وَأَضَلُّ سَبِيلًا مَنْ يَسْأَلُونَ بَعْضَ الصَّالِحِينَ عِنْدَهُمْ مَا نَهَى الله عَنْهُ نَبِيًّا مِنْ أُولِي الْعَزْمِ مِنْ رُسُلِهِ أَنْ يَسْأَلَهُ إِيَّاهُ، كَأَنَّ هَؤُلَاءِ الصَّالِحِينَ يُعْطُونَهُمْ أَوْ يَتَوَسَّلُونَ إِلَى اللهِ أَنْ يُعْطِيَهُمْ مَا لَمْ يُعْطِ مِثْلَهُ لِرُسُلِهِ، بَلْ مَا عُدَّ طَلَبُهُ مِنْهُ ذَنْبًا مِنْ ذُنُوبِهِمْ أَمَرَهُمْ بِالتَّوْبَةِ مِنْهُ وَعَدَمِ الْعَوْدَةِ إِلَى مِثْلِهِ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْوَعْظُ هُنَا بِمَعُونَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَعِظُكُمُ اللهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (24: 17) وَتَقَدَّمَ مَعْنَى الْوَعْظِ فِي تَفْسِيرِ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} (10: 57).
{قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ} أَيْ: إِنِّي أَعْتَصِمُ وَأَحْتَمِي بِكَ مِنْ أَنْ أَسْأَلَكَ بَعْدَ الْآنِ مَا لَيْسَ لِي عِلْمٌ صَحِيحٌ بِأَنَّهُ جَائِزٌ لَائِقٌ {وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي} أَيْ: وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لِي ذَنْبَ هَذَا السُّؤَالِ الَّذِي سَوَّلَتْهُ لِي رَحْمَتِي الْأَبَوِيَّةُ، وَطَمَعِي بِرَحْمَتِكَ الرَّبَّانِيَّةِ {وَتَرْحَمْنِي} بِقَبُولِ تَوْبَتِي الصَّادِقَةِ وَرَحْمَتِكَ الَّتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ {أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} فِيمَا حَاوَلْتُهُ مِنَ الرِّبْحِ بِنَجَاةِ أَوْلَادِي كُلِّهِمْ وَسَعَادَتِهِمْ بِطَاعَتِكَ وَأَنْتَ أَعْلَمُ بِهِمْ مِنِّي، وَالْعِبْرَةُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ وُجُوهٍ: (أَوَّلُهَا) أَنَّ سُؤَالَ نُوحٍ عليه السلام مَا سَأَلَهُ لِابْنِهِ لَمْ يَكُنْ مَعْصِيَةً لِلَّهِ تَعَالَى خَالَفَ فِيهَا أَمْرَهُ أَوْ نَهْيَهُ، وَإِنَّمَا كَانَتْ خَطَأً فِي اجْتِهَادِ رَأْيٍ بِنِيَّةٍ صَالِحَةٍ، وَإِنَّمَا عَدَّهَا اللهُ تَعَالَى ذَنْبًا لَهُ لِأَنَّهَا كَانَتْ دُونَ مَقَامِ الْعِلْمِ الصَّحِيحِ بِمَنْزِلَتِهِ مِنْ رَبِّهِ، هَبَطَتْ بِضَعْفِهِ الْبَشَرِيِّ وَمَا غُرِسَ فِي الْفِطْرَةِ مِنَ الرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ بِالْأَوْلَادِ إِلَى اتِّبَاعِ الظَّنِّ، وَمِثْلُ هَذَا الِاجْتِهَادِ لَمْ يُعْصَمْ مِنْهُ الْأَنْبِيَاءُ فَيَقَعُونَ فِيهِ أَحْيَانًا، لِيَشْعُرُوا بِحَاجَتِهِمْ إِلَى تَأْدِيبِ رَبِّهِمْ وَتَكْمِيلِهِ إِيَّاهُمْ آنًا بَعْدَ آنٍ، بِمَا يَصْعَدُونَ بِهِ فِي مَعَارِجِ الْعِرْفَانِ.
(ثَانِيهَا) أَنَّ الْإِيمَانَ وَالصَّلَاحَ لَا عَلَاقَةَ لَهُ بِالْوِرَاثَةِ وَالْأَنْسَابِ، وَقَدْ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ اسْتِعْدَادِ الْأَفْرَادِ، وَمَا يُحِيطُ بِهِمْ مِنَ الْأَسْبَابِ، وَمَا يَكُونُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْآرَاءِ وَالْأَعْمَالِ، وَلَوْ كَانَ بِالْوِرَاثَةِ لَكَانَ جَمِيعُ وَلَدِ آدَمَ كَأَبِيهِمْ، غَايَةُ مَا يَقَعُ مِنْهُمْ مَعْصِيَةٌ تَقَعُ عَنِ النِّسْيَانِ وَضَعْفِ الْعَزْمِ، وَتَتْبَعُهَا التَّوْبَةُ وَاجْتِبَاءُ الرَّبِّ، ثُمَّ لَكَانَ سَلَائِلُ أَبْنَاءِ نُوحٍ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ نَجَوْا مَعَهُ فِي السَّفِينَةِ كُلُّهُمْ مُؤْمِنِينَ صَالِحِينَ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّ نَسْلَ الْبَشَرِ انْحَصَرَ فِيهِمْ، وَقَدْ دَلَّتِ الْآيَةُ الْآتِيَةُ عَلَى أَنَّ فِيهِمُ الصَّالِحِينَ وَالطَّالِحِينَ وَأَيَّدَ ذَلِكَ الْوَاقِعُ، بَلْ لَمَا كَانَ أَحَدُهُمْ الْمَذْكُورُ هُنَا كَافِرًا هَالِكًا.
(ثَالِثُهَا) أَنَّ اللهَ تَعَالَى يَجْزِي النَّاسَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ بِإِيمَانِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ لَا بِأَنْسَابِهِمْ، وَلَا يُحَابِي أَحَدًا مِنْهُمْ لِأَجْلِ آبَائِهِ وَأَجْدَادِهِ الصَّالِحِينَ وَإِنْ كَانُوا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ الْمُرْسَلِينَ، وَأَنَّ مَنْ سَأَلَهُ مِنْ هَؤُلَاءِ الْآبَاءِ مَا يُخَالِفُ سُنَنَهُ فِي شَرْعِهِ وَحِكْمَتَهُ فِي نِظَامِ خَلْقِهِ، كَانَ مُذْنِبًا يَسْتَحِقُّ التَّأْدِيبَ، حَتَّى يَتُوبَ وَيُنِيبَ.
(رَابِعُهَا) أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمَغْرُورِينَ بِأَنْسَابِهِمْ مِنَ الشُّرَفَاءِ الْجَاهِلِينَ بِكِتَابِ رَبِّهِمْ وَمَا يَلِيقُ بِعَظَمَةِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَعُلُوِّ الْأُلُوهِيَّةِ، الْجَاهِلِينَ بِسُنَّةِ نَبِيِّهِمُ، الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ أَفْضَلُ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْعَامِلِينَ، وَالصَّالِحِينَ الْمُصْلِحِينَ، وَالْأَغْنِيَاءِ الشَّاكِرِينَ، وَالْفُقَرَاءِ الصَّابِرِينَ، وَإِنْ كَانُوا عُرَاةً مِمَّا كَسَا اللهُ هَؤُلَاءِ الْأَصْنَافَ مِنْ لِبَاسِ التَّقْوَى وَالدِّينِ، وَأَنَّهُمْ يَسْتَحِقُّونَ سَعَادَةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ بِنَسَبِهِمْ، وَيَسْتَحِقُّهَا مَنْ عَظَّمَهُمْ وَأَفَاضَ عَلَيْهِمْ مِنْ مَالِهِ بِمُحَابَاةِ اللهِ لَهُ لِأَجْلِهِمْ، أُولَئِكَ هُمُ الْجَاهِلُونَ الَّذِينَ يَشْهَدُ عَلَيْهِمْ كِتَابُ اللهِ الَّذِي لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ، وَسُنَّةُ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم وَهَدْيُهُ فِي إِنْذَارِ عَشِيرَتِهِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ، كَقَوْلِهِ لِبِنْتِهِ سَيِّدَةِ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ: «يَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَلِينِي مِنْ مَالِي مَا شِئْتِ، لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللهِ شَيْئًا» رَوَاهُ الشَّيْخَانِ مِنْ حَدِيثٍ طَوِيلٍ.
هَؤُلَاءِ الْجَاهِلُونَ الْمَسَاكِينُ يَعُدُّونَ أَعْدَى أَعْدَائِهِمْ مَنْ يَدْعُوهُمْ أَوْ يَدْعُو النَّاسَ إِلَى كِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ وَخَاتَمِ النَّبِيِّينَ، وَيَعُدُّونَ أَصْدَقَ أَصْدِقَائِهِمُ الْمُبْتَدِعِينَ الْخُرَافِيِّينَ الْمُشَعْوِذِينَ.
قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ الْآيَةُ الْأُولَى مِنْ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ خَاتِمَةُ قِصَّةِ نُوحٍ عليه السلام وَالَّتِي تَلِيهَا اسْتِدْلَالٌ بِهَا عَلَى نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ وَرَدَتْ كُلٌّ مِنْهُمَا مَفْصُولَةً مِمَّا قَبْلَهَا غَيْرَ مَعْطُوفَةٍ عَلَيْهِ.
وَلَوْلَا الْفَصْلُ بَيْنَ الْأُولَى وَبَيْنَ آيَةِ: {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ} (44) لِمَا بَيَّنَّاهُ مِنَ الْحِكْمَةِ فِي ذَلِكَ لَكَانَ الْوَجْهُ أَنْ تُعْطَفَ عَلَيْهَا، إِمَّا مَعَ إِعَادَةِ الْقِيلِ، وَإِمَّا بِدُونِهِ بِأَنْ يُقَالَ: {يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا} وَلَكِنَّ الْفَصْلَ بِالْآيَاتِ الثَّلَاثِ فِي مَسْأَلَةِ نُوحٍ وَوَلَدِهِ صَارَ مَانِعًا مِنَ الْوَصْلِ بِمَا قَبْلَهُ وَمُقْتَضِيًا أَنْ تُذْكَرَ مَفْصُولَةً عَلَى الِاسْتِئْنَافِ الْبَيَانِيِّ الَّذِي هُوَ جَوَابٌ عَنْ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، وَأَنْ يُبْدَأَ بِفِعْلِ {قِيلَ} الْمَجْهُولِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُتَعَيِّنُ الْمَعْلُومُ.
{قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا} أَيْ: قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ، الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ، وَعَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، وَمُدَبِّرُ أَمْرِ الْعَالَمِ كُلِّهِ لِنُوحٍ؛ بَعْدَ انْتِهَاءِ أَمْرِ الطُّوفَانِ، وَإِقْلَاعِ السَّمَاءِ عَنْ إِمْطَارِهَا، وَابْتِلَاعِ الْأَرْضِ لِمَائِهَا، وَإِمْكَانِ السُّكْنَى وَالْعَمَلِ عَلَى ظَهْرِهَا: يَا نُوحُ اهْبِطْ مِنَ السَّفِينَةِ أَوْ مِنَ الْجُودِيِّ الَّذِي اسْتَوَتْ عَلَيْهِ إِلَى الصَّفْصَفِ الْمُسْتَوِي مِنْهَا، مُلَابِسًا أَوْ مُزَوَّدًا وَمُمَتَّعًا بِسَلَامٍ مِنْ عَظَمَتِنَا وَرَحْمَتِنَا الرَّبَّانِيَّةِ، وَهُوَ التَّحِيَّةُ وَالسَّلَامُ مِنَ الْفِتَنِ وَالْعَدَاوَةِ الَّتِي أَحْدَثَهَا الْمُشْرِكُونَ الظَّالِمُونَ فِيهَا، {وَبَرَكَاتٍ} فِي الْمَعَايِشِ وَسَعَةِ الرِّزْقِ فَائِضَةً {عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ} أَيْ: وَعَلَى مَنْ مَعَكَ الْآنَ فِي السَّفِينَةِ، وَعَلَى ذُرِّيَّاتٍ يَتَنَاسَلُونَ مِنْهُمْ وَيَتَفَرَّقُونَ فِي الْأَرْضِ، فَيَكُونُونَ أُمَمًا مُسْتَقِلًّا بَعْضُهُمْ دُونَ بَعْضٍ، وَهُمْ مُمَتَّعُونَ بِهَذَا السَّلَامِ الْمَعْنَوِيِّ وَالْبَرَكَاتِ الْمَادِّيَّةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَشْمَلَ لَفْظُ الْأُمَمِ مَا كَانَ مَعَ نُوحٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْحَيَوَانِ، فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} (6: 38): {وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ} أَيْ: وَثَمَّ أُمَمٌ آخَرُونَ مِنْ بَعْدِهِمْ سَنُمَتِّعُهُمْ فِي الدُّنْيَا بِأَرْزَاقِهَا وَبَرَكَاتِهَا دُونَ السَّلَامِ الرَّبَّانِيِّ، الْمَمْنُوحِ مِنَ الْأَلْطَافِ الرَّحْمَانِيِّ، لِسَلِيمِي الْفِطْرَةِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَإِنَّ أُولَئِكَ سَيُغْوِيهِمُ الشَّيْطَانُ الرَّجِيمُ، وَيُزَيِّنُ لَهُمُ الشِّرْكَ بِرَبِّهِمْ، وَالظُّلْمَ وَالْبَغْيَ فِيمَا بَيْنَهُمْ {ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لِأَنَّهُمْ لَا يُحَافِظُونَ عَلَى السَّلَامِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ مَنْ قَبْلَهُمْ، بَلْ يَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ لِتَفَرُّقِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ فِي هِدَايَةِ الدِّينِ، الَّتِي نَبْعَثُ بِهَا الْمُرْسَلِينَ، كَمَا وَقَعَ لَكَ مَعَ قَوْمِكَ الْأَوَّلِينَ.
هَذَا هُوَ الْمُتَبَادِرُ مِنْ مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ، وَمَا بَيَّنَّاهُ فِي تَفْسِيرِ مَا قَبْلَهَا مِنْ آيَاتِ الْقِصَّةِ هُوَ الْمُتَبَادِرُ مِنْ مَدْلُولِ أَلْفَاظِهَا الْفَصِيحَةِ نَصًّا وَاقْتِضَاءً، الْمُوَافِقُ لِسُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِي الْأُمَمِ، فَهِيَ لَا تَحْتَمِلُ كَثْرَةَ الْآرَاءِ الَّتِي قُرِنَتْ بِهَا، لَوْلَا كَثْرَةُ الرِّوَايَاتِ الْغَرِيبَةِ الَّتِي غَشِيَتْهَا، حَتَّى مَا لَا يَقْبَلُهُ اللَّفْظُ وَلَا الشَّرْعُ وَلَا الْعَقْلُ مِنْهَا، وَسَنُبَيِّنُ مَجَامِعَ الْعِبْرَةِ فِيهَا.
{تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ} الْإِشَارَةُ إِلَى قِصَّةِ نُوحٍ الْمُفَصَّلَةِ هَذَا التَّفْصِيلَ الْبَدِيعَ، {مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ} الْمَاضِيَةِ {نُوحِيهَا إِلَيْكَ} أَيُّهَا الرَّسُولُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، مُتَمَّمًا وَمُفَصَّلًا لِمَا أَوْحَيْنَاهُ إِلَيْكَ قَبْلَهَا {مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا} الْوَحْيِ الَّذِي نَزَلَ مُبَيِّنًا لَهَا، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم مَا كَانَ يَعْلَمُهَا هُوَ، وَلَا قَوْمُهُ يَعْلَمُونَهَا بِهَذَا التَّفْصِيلِ، وَقَدْ كَانَ هُوَ يَعْلَمُهَا بِالْإِجْمَالِ، وَهُوَ لَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهُمْ قَدْ عَلِمَ مِنْهُ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ شَيْئًا مَا مِنْهَا، وَلَوْ كَانَ قَوْمُهُ وَهُمْ قُرَيْشٌ يَعْلَمُونَهَا عَلَى الْوَجْهِ الْمَنْفِيِّ هُنَا وَأَكْثَرَهُمْ كَافِرُونَ بِهِ لَكَذَّبُوهُ، وَلَنُقِلَ تَكْذِيبُهُمُ الْخَاصُّ لَهُ فِيهَا؛ كَمَا نُقِلَ تَكْذِيبُهُمْ الْعَامُّ لِلْقِصَصِ كُلِّهَا، إِذْ قَالُوا إِنَّهُ افْتَرَاهَا، وَلَكِنَّ هَذَا طَعْنٌ مُفْتَعَلٌ فِي شَيْءٍ لَا يُعْلَمُ مِنْ قَبْلِهِمْ، وَقَدْ تُحُدُّوا فِيهِ بِمَا قَامَتْ بِهِ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ، وَأَمَّا تَكْذِيبُهُ الْخَاصُّ فِيمَا يُعْلَمُ مِنْ نَاحِيَتِهِمْ- وَهُوَ الْعِلْمُ بِهَذِهِ الْقِصَّةِ مِنْ قَبْلِ هَذَا- فَلَوْ وَقَعَ لَكَانَ يَكُونُ حُجَّةً وَلَوْ ظَاهِرَةً لَهُمْ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَقَعْ فَتَمَّتْ بِهِ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ وَعَلَى مَنْ بَعْدَهُمْ {فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} أَيْ فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ نُوحٌ عَلَى قَوْمِهِ، فَإِنَّ سُنَّةَ اللهِ فِي رُسُلِهِ وَأَقْوَامِهِمْ أَنْ تَكُونَ الْعَاقِبَةُ بِالْفَوْزِ وَالنَّجَاةِ لِلْمُتَّقِينَ، وَأَنْتَ وَمَنِ اتَّبَعَكَ الْمُتَّقُونَ، فَأَنْتُمُ النَّاجُونَ الْمُفْلِحُونَ، وَالْمُصِرُّونَ عَلَى عَدَاوَتِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ الْهَالِكُونَ، فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ.

.عِلَاوَاتُ التَّفْسِيرِ قِصَّةُ نُوحٍ عليه السلام:

.الْعِلَاوَةُ الْأُولَى: الْبَلَاغَةُ الْفَنِّيَّةُ فِي الْآيَةِ 44:

سَبَقَ لَنَا أَنْ قُلْنَا فِي الْكَلَامِ عَلَى إِعْجَازِ الْقُرْآنِ بِبَلَاغَتِهِ، وَمَذْهَبِ الْمُتَكَلِّمِينَ وَأُدَبَاءِ الْفُنُونِ فِي التَّحَدِّي بِهِ: إِنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنَ الْإِعْجَازِ يَقِلُّ مَنْ يَفْقَهُهُ فِي هَذَا الْعَصْرِ لِفَقْدِ أَهْلِهِ مَلَكَتَيِ الْبَلَاغَةِ الذَّوْقِيَّةِ السَّلِيقِيَّةِ وَالْبَيَانِيَّةِ الْفَنِّيَّةِ، بَلْهَ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا، وَهُوَ ضَرُورِيٌّ لِإِدْرَاكِ هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْإِعْجَازِ، وَإِنَّ مَنْ يَفْقَهُهُ وَيُدْرِكُ عَدَمَ اسْتِطَاعَةِ أَحَدٍ أَنْ يَأْتِيَ بِسُورَةٍ مِثْلِهِ، قَدْ يَخْفَى عَلَيْهِ وَجْهُ دَلَالَتِهِ عَلَى أَنَّهُ لابد أَنْ يَكُونَ وَحْيًا مِنَ اللهِ تَعَالَى وَحُجَّةً عَلَى نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَلِذَلِكَ جَزَمُوا بِوُقُوعِ الْعَجْزِ وَاخْتَلَفُوا فِي وَجْهِ الدَّلَالَةِ، فَمَثَلُهُمْ كَمَثَلِ حُذَّاقِ الْفَنَّانِينَ فِي الْوَشْيِ وَالتَّطْرِيزِ إِذَا رَأَوْا صُنْعَ قُدَمَاءِ الْهُنُودِ مِنْ أَهْلِ هُورَ وَكَشْمِيرَ وَأَقَرُّوا بِالْعَجْزِ عَنْ مُحَاكَاتِهِ، أَوِ الْمُصَوِّرِينَ إِذَا رَأَوْا أَدَقَّ صُوَرِ رَفَائِيلَ فِي تَصْوِيرِ الْإِنْسَانِ بِأَدَقِّ مَنَاظِرِ أَعْضَائِهِ وَشَمَائِلِهِ وَمَلَامِحِ صِفَاتِهِ النَّفْسِيَّةِ وَأَمَارَاتِ انْفِعَالَاتِهِ وَلاسيما الْمُتَقَارِبَةُ: كَالْخَوْفِ وَالْفَزَعِ، وَالْحُزْنِ وَالْغَمِّ، وَالْغَضَبِ، وَنَظَرِ الْإِقْرَارِ، وَنَظَرِ الْإِنْكَارِ، وَنَظَرِ الشَّهْوَةِ، وَنَظَرِ الْعَطْفِ وَالرَّحْمَةِ، وَنَظَرِ الْإِعْجَابِ وَالْعَجَبِ، وَنَظَرَ الْمُتَفَكِّرِ وَالْمُتَحَيِّرِ، فَقَدْ يُقِرُّونَ بِعَجْزِهِمْ عَنْ مُحَاكَاتِهَا وَلَكِنَّهُمْ لَا يَقُولُونَ بِعَدَمِ إِمْكَانِهَا، بَلْ يَقُولُونَ بِإِمْكَانِهَا وَبِقُرْبِ وُقُوعِهَا بِالْفِعْلِ إِذَا وُجِدَتِ الدَّاعِيَةُ الْقَوِيَّةُ كَمَنْفَعَةٍ مَالِيَّةٍ كَبِيرَةٍ أَوْ مَصْلَحَةٍ قَوْمِيَّةٍ أَوْ دَوْلِيَّةٍ عَظِيمَةٍ.
وَمِنَ الْمَعْلُومِ مِنْ تَارِيخِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَعَ فُصَحَاءِ قُرَيْشٍ وَغَيْرِهِمْ، أَنَّهُ حَدَثَتْ لَهُمْ أَعْظَمُ الدَّوَاعِي وَالْمَصَالِحِ لِمُعَارَضَةِ الْقُرْآنِ بَعْدَ تَحَدِّيهِمْ بِسُورَةٍ مِثْلِهِ مُطْلَقًا، وَالتَّحَدِّي بِعَشْرِ سُوَرٍ فِي الْمُكَرَّرِ وَلَوْ مُفْتَرًى، فَأَيْقَنُوا بِعَجْزِهِمْ عَنِ الْإِتْيَانِ بِهَا وَبِهِنَّ، وَلَوْ ظَاهَرَهُمْ عَلَيْهِ جَمِيعُ الْإِنْسِ عَلَى كَثْرَةِ بُلَغَائِهِمْ وَفُصَحَائِهِمْ، وَالْجِنُّ الَّذِينَ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ مِنْهُمْ هَوَاجِسَ تُلَقِّنُهُمُ الشِّعْرَ مِنْ حَيْثُ لَا يَرَوْنَهُمْ، وَكَذَا آلِهَتُهُمُ الْقَادِرُونَ بِخَصَائِصِهِمُ الْغَيْبِيَّةِ أَوْ بِمَكَانَتِهِمْ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى عَلَى كُلِّ مَا يُرِيدُونَ فِي هَذَا الْعَالَمِ بِزَعْمِهِمْ، قَدْ عَجَزُوا مَعَ هَذَا كُلِّهِ وَاضْطَرُّوا إِلَى مُقَاوَمَةِ النَّبِيِّ بِالْقِتَالِ، وَمَا أَعْقَبَهُمْ مِنْ خَسَارَةِ الْمَالِ، وَسَبْيِ النِّسَاءِ وَالْأَطْفَالِ، ثُمَّ مَا هُوَ أَشَدُّ عَلَيْهِمْ وَهُوَ احْتِمَالُ الذُّلِّ وَالنَّكَالِ، وَرُوِيَ أَنَّ كُبَرَاءَهُمْ عَزَمُوا عَلَى التَّعَاوُنِ عَلَى الْمُعَارَضَةِ وَاسْتَعَدُّوا لَهَا فَسَمِعُوا هَذِهِ الْآية: {وَقِيلَ يَا أَرْضُ} فَتَضَاءَلَتْ قُوَاهُمْ وَاسْتَخْذَتْ أَنْفُسُهُمْ وَرَجَعُوا عَنْ عَزْمِهِمْ كَمَا يَأْتِي قَرِيبًا.